فصل: فصل هَلْ يُضْرَبُ الْخَرَاجُ عَلَى مَزَارِعِ مَكّةَ كَسَائِرِ أَرْضِ الْعَنْوَةِ؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ مَنْعَ الْإِجَارَةِ وَجَوَازَ الْبَيْعِ:

فَالصّوَابُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِ الْأَدِلّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَنّ الدّورَ تُمْلَكُ وَتُوهَبُ وَتُوَرّثُ وَتُبَاعُ وَيَكُونُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِي الْبِنَاءِ لَا فِي الْأَرْضِ وَالْعَرْصَةِ فَلَوْ زَالَ بِنَاؤُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ وَلَهُ أَنْ يَبْنِيَهَا وَيُعِيدَهَا كَمَا كَانَتْ وَهُوَ أَحَقّ بِهَا يَسْكُنُهَا وَيُسْكِنُ فِيهَا مَنْ شَاءَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى مَنْفَعَةِ السّكْنَى بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ إنّمَا يَسْتَحِقّ أَنْ يُقَدّمَ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ وَيَخْتَصّ بِهَا لِسَبْقِهِ وَحَاجَتِهِ فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَيْهَا، كَالْجُلُوسِ فِي الرّحَابِ وَالطّرُقِ الْوَاسِعَةِ وَالْإِقَامَةِ عَلَى الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ الّتِي مَنْ سَبَقَ إلَيْهَا، فَهُوَ أَحَقّ بِهَا مَا دَامَ يَنْتَفِعُ فَإِذَا اسْتَغْنَى، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعَاوِضَ وَقَدْ صَرّحَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنّ الْبَيْعَ وَنَقْلَ الْمِلْكِ فِي رِبَاعِهَا إنّمَا يَقَعُ عَلَى الْبِنَاءِ لَا عَلَى الْأَرْضِ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ.

.نَظَائِرُ فِي الشّرِيعَةِ لِمَنْعِ الْإِجَارَةِ وَجَوَازِ الْبَيْعِ:

فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ مَنَعْتُمْ الْإِجَارَةَ وَجَوّزْتُمْ الْبَيْعَ فَهَلْ لِهَذَا نَظِيرٌ فِي الشّرِيعَةِ وَالْمَعْهُودُ فِي الشّرِيعَةِ أَنّ الْإِجَارَةَ أَوْسَعُ مِنْ الْبَيْعِ فَقَدْ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ كَالْوَقْفِ وَالْحُرّ فَأَمّا الْعَكْسُ فَلَا عَهْدَ لَنَا بِهِ؟ قِيلَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ عَقْدٌ مُسْتَقِلّ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْآخَرِ فِي جَوَازِهِ وَامْتِنَاعِهِ وَمَوْرِدُهُمَا مُخْتَلِفٌ وَأَحْكَامُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ وَإِنّمَا جَازَ الْبَيْعُ لِأَنّهُ وَارِدٌ عَلَى الْمَحَلّ الّذِي كَانَ الْبَائِعُ أَخَصّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الْبِنَاءُ وَأَمّا الْإِجَارَةُ فَإِنّمَا تَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ وَلِلسّابِقِ إلَيْهَا حَقّ التّقَدّمِ دُونَ الْمُعَاوَضَةِ فَلِهَذَا أَجَزْنَا الْبَيْعَ دُونَ الْإِجَارَةِ فَإِنْ أَبَيْتُمْ إلّا النّظِيرَ قِيلَ هَذَا الْمُكَاتَبُ يَجُوزُ لِسَيّدِهِ بَيْعُهُ وَيَصِيرُ مُكَاتَبًا عِنْدَ مُشْتَرِيهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ إجَارَتُهُ إذْ فِيهَا إبْطَالُ مَنَافِعِهِ وَأَكْسَابِهِ الّتِي مَلَكَهَا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَاللّهُ أَعْلَمُ. عَلَى أَنّهُ لَا يُمْنَعُ الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعُ أَرْضِهَا وَرِبَاعِهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنّهَا تَكُونُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي كَذَلِك مُشْتَرَكَةَ الْمَنْفَعَةِ إنْ احْتَاجَ سَكَنَ وَإِنْ اسْتَغْنَى، أَسْكَنَ كَمَا كَانَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَيْسَ فِي بَيْعِهَا إبْطَالُ اشْتِرَاكِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا أَنّهُ لَيْسَ فِي بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إبْطَالُ مِلْكِهِ لِمَنَافِعِهِ الّتِي مَلَكَهَا بِعَقْدِ الْمُكَاتَبَةِ وَنَظِيرُ هَذَا جَوَازُ بَيْعِ أَرْضِ الْخَرَاجِ الّتِي وَقَفَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى الصّحِيحِ الّذِي اسْتَقَرّ الْحَالُ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ الْأُمّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَإِنّهَا تَنْتَقِل إلَى الْمُشْتَرِي خَرَاجِيّةً كَمَا كَانَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ وَحَقّ الْمُقَاتِلَةِ إنّمَا هُوَ فِي خَرَاجِهَا، وَهُوَ لَا يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ وَقَدْ اتّفَقَتْ الْأُمّةُ عَلَى أَنّهَا تُورَثُ فَإِنْ كَانَ بُطْلَانُ بَيْعِهَا لِكَوْنِهَا وَقْفًا، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ وَقْفِيّتُهَا مُبْطِلَةً لِمِيرَاثِهَا، وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ جَعْلِهَا صَدَاقًا فِي النّكَاحِ فَإِذَا جَازَ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهَا بِالصّدَاقِ وَالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ جَازَ الْبَيْعُ فِيهَا قِيَاسًا وَعَمَلًا، وَفِقْهًا. وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل هَلْ يُضْرَبُ الْخَرَاجُ عَلَى مَزَارِعِ مَكّةَ كَسَائِرِ أَرْضِ الْعَنْوَةِ؟

فَإِذَا كَانَتْ مَكّةُ قَدْ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَهَلْ يُضْرَبُ الْخَرَاجُ عَلَى مَزَارِعِهَا كَسَائِرِ أَرْضِ الْعَنْوَةِ وَهَلْ يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ أَمْ لَا؟ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ لِأَصْحَابِ الْعَنْوَةِ أَحَدُهُمَا: الْمَنْصُوصُ الْمَنْصُورُ الّذِي لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِغَيْرِهِ أَنّهُ لَا خَرَاجَ عَلَى مَزَارِعِهَا وَإِنْ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَإِنّهَا أَجَلّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ لَا سِيمَا وَالْخَرَاجُ هُوَ جِزْيَةُ الْأَرْضِ وَهُوَ عَلَى الْأَرْضِ كَالْجِزْيَةِ عَلَى الرّءُوسِ وَحَرَمُ الرّبّ أَجَلّ قَدْرًا وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ تُضْرَبَ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ وَمَكّةُ بِفَتْحِهَا عَادَتْ إلَى مَا وَضَعَهَا اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهَا حَرَمًا آمِنًا يَشْتَرِكُ فِيهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ إذْ هُوَ مَوْضِعُ مَنَاسِكِهِمْ وَمُتَعَبّدِهِمْ وَقِبْلَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَالثّانِي- وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ- أَنّ عَلَى مَزَارِعِهَا الْخَرَاجُ كَمَا هُوَ عَلَى مَزَارِعِ غَيْرِهَا مِنْ أَرْضِ الْعَنْوَةِ وَهَذَا فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِنَصّ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ وَمَذْهَبِهِ وَلِفِعْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخُلَفَائِهِ الرّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ فَلَا الْتِفَاتَ إلَيْهِ وَاَللّه أَعْلَمُ. وَقَدْ بَنَى بَعْضُ الْأَصْحَابِ تَحْرِيمَ بَيْعِ رِبَاعِ مَكّةَ عَلَى كَوْنِهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَهَذَا بِنَاءٌ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنّ مَسَاكِنَ أَرْضِ الْعَنْوَةِ تُبَاعُ قَوْلًا وَاحِدًا، فَظَهَرَ بُطْلَانُ هَذَا الْبِنَاءِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.تَعْيِينُ قَتْلِ السّابّ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:

وَفِيهَا: تَعْيِينُ قَتْلِ السّابّ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنّ قَتْلَهُ حَدّ لَابُدّ مِنْ اسْتِيفَائِهِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُؤَمّنْ مَقِيسَ بْنَ صُبَابَةَ، وَابْنَ خَطَلٍ، وَالْجَارِيَتَيْنِ اللّتَيْنِ كَانَتَا تُغَنّيَانِ بِهِجَائِهِ مَعَ أَنّ نِسَاءَ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يُقْتَلْنَ كَمَا لَا تُقْتَلُ الذّرّيّةُ وَقَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ هَاتَيْنِ الْجَارِيَتَيْنِ وَأَهْدَرَ دَمَ أُمّ وَلَدِ الْأَعْمَى لَمّا قَتَلَهَا سَيّدُهَا لِأَجْلِ سِبّهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَتَلَ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيّ، وَقَالَ «مَنْ لِكَعْبٍ فَإِنّهُ قَدْ آذَى اللّهَ وَرَسُولَهُ» وَكَانَ يَسُبّهُ وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ وَلَا يُعْلَمُ لَهُمْ فِي الصّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَإِنّ الصّدّيقَ- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ- قَالَ لِأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيّ وَقَدْ هَمّ بِقَتْلِ مَنْ سَبّهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا لِأَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَرّ عُمَرُ- رَضِيَ اللّه عَنْهُ- بِرَاهِبٍ فَقِيلَ لَهُ هَذَا يَسُبّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. فَقَالَ لَوْ سَمِعْتُهُ لَقَتَلْتُهُ، إنّا لَمْ نُعْطِهِمْ الذّمّةَ عَلَى أَنْ يَسُبّوا نَبِيّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُحَارَبَةَ بِسَبّ نَبِيّنَا أَعْظَمُ أَذِيّةً وَنِكَايَةً لَنَا مِنْ الْمُحَارَبَةِ بِالْيَدِ وَمَنْعِ دِينَارِ جِزْيَةٍ فِي السّنَةِ فَكَيْفَ يُنْقَضُ عَهْدُهُ وَيُقْتَلُ بِذَلِكَ دُونَ السّبّ وَأَيّ نِسْبَةٍ لِمَفْسَدَةِ مَنْعِهِ دِينَارًا فِي السّنَةِ إلَى مَفْسَدَةِ مَنْعِ مُجَاهَرَتِهِ بِسَبّ نَبِيّنَا أَقْبَحَ سَبّ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ بَلْ لَا نِسْبَةَ لِمَفْسَدَةِ مُحَارَبَتِهِ بِالْيَدِ إلَى مَفْسَدَةِ مُحَارَبَتِهِ بِالسّبّ فَأَوْلَى مَا انْتَقَضَ بِهِ عَهْدُهُ وَأَمَانُهُ سَبّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِشَيْءٍ أَعْظَمَ مِنْهُ إلّا سِبّهُ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُقْتَضَى النّصُوصِ وَإِجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ- وَعَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ دَلِيلًا.

.لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخِيَارُ فِي حَيَاتِهِ لِقَتْلِ مَنْ سَبّهُ:

فَإِنْ قِيلَ فَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَقْتُلْ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ وَقَدْ قَالَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لِيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ وَلَمْ يَقْتُلْ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ التّمِيمِيّ وَقَدْ قَالَ لَهُ اعْدِلْ فَإِنّكَ لَمْ تَعْدِلْ وَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ قَالَ لَهُ يَقُولُونَ إنّك تَنْهَى عَنْ الْغَيّ وَتَسْتَخْلِي بِهِ وَلَمْ يَقْتُلْ الْقَائِلَ لَهُ إنّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللّهِ وَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ قَالَ لَهُ لَمّا حَكَمَ لِلزّبَيْرِ بِتَقْدِيمِهِ فِي السّقْيِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمّتِك، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِمّنْ كَانَ يَبْلُغُهُ عَنْهُمْ أَذًى لَهُ وَتَنَقّصٌ.

.مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ قَتْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ سَبّهُ تَأْلِيفُ النّاسِ وَعَدَمُ بُلُوغِهِمْ أَنّهُ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ:

قِيلَ الْحَقّ كَانَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ وَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقّهُ كَمَا أَنّ الرّبّ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقّهُ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُسْقِطَ حَقّهُ تَعَالَى بَعْدَ وُجُوبِهِ كَيْفَ وَقَدْ كَانَ فِي تَرْكِ قَتْلِ مَنْ ذَكَرْتُمْ وَغَيْرِهِمْ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ فِي حَيَاتِهِ زَالَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ تَأْلِيفِ النّاسِ وَعَدَمِ تَنْفِيرِهِمْ عَنْهُ فَإِنّهُ لَوْ بَلَغَهُمْ أَنّهُ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ لَنَفَرُوا، وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا بِعَيْنِهِ وَقَالَ لِعُمَرَ لَمّا أَشَارَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ: لَا يَبْلُغُ النّاسَ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَه وَجَمْعِ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ كَانَتْ أَعْظَمَ عِنْدَهُ وَأَحَبّ إلَيْهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ بِقَتْلِ مَنْ سَبّهُ وَآذَاهُ وَلِهَذَا لَمّا ظَهَرَتْ مَصْلَحَةُ الْقَتْلِ وَتَرَجّحَتْ جِدّا، قَتَلَ السّابّ كَمَا فَعَلَ بِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فَإِنّهُ جَاهَرَ بِالْعَدَاوَةِ وَالسّبّ فَكَانَ قَتْلُهُ أَرْجَحَ مِنْ إبْقَائِهِ وَكَذَلِك قَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ، وَمَقِيسٍ وَالْجَارِيَتَيْنِ وَأُمّ وَلَدِ الْأَعْمَى، فَقَتَلَ لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَكَفّ لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إلَى نُوّابِهِ وَخُلَفَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُسْقِطُوا حَقّهُ.

.فَصْلٌ فِيمَا فِي خُطْبَتِهِ الْعَظِيمَةِ ثَانِيَ يَوْمِ الْفَتْحِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ:

فَمِنْهَا قَوْلُهُ إنّ مَكّةَ حَرّمَهَا اللّهُ، وَلَمْ يُحَرّمْهَا النّاسُ فَهَذَا تَحْرِيمٌ شَرْعِيّ قَدَرِيّ سَبَقَ بِهِ قَدَرُهُ يَوْمَ خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ ثُمّ ظَهَرَ بِهِ عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمّدٍ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا كَمَا فِي الصّحِيحِ عَنْهُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ اللّهُمّ إنّ إبْرَاهِيمَ خَلِيلَكَ حَرّمَ مَكّةَ، وَإِنّي أُحَرّمُ الْمَدِينَةَ فَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ ظُهُورِ التّحْرِيمِ السّابِقِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى لِسَانِ إبْرَاهِيمَ وَلِهَذَا لَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيمِهَا، وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، وَالصّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ تَحْرِيمُهَا، إذْ قَدْ صَحّ فِيهِ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا مَطْعَنَ فِيهَا بِوَجْهٍ.

.تَحْرِيمُ سَفْكِ الدّمِ فِيهَا:

وَمِنْهَا: قَوْلُهُ فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا هَذَا التّحْرِيمُ لِسَفْكِ الدّمِ الْمُخْتَصّ بِهَا، وَهُوَ الّذِي يُبَاحُ فِي غَيْرِهَا، وَيَحْرُمُ فِيهَا لِكَوْنِهَا حَرَمًا، كَمَا أَنّ تَحْرِيمَ عَضْدِ الشّجَرِ بِهَا، وَاخْتِلَاءِ خَلَائِهَا، وَالْتِقَاطِ لُقَطَتِهَا، هُوَ أَمْرٌ مُخْتَصّ بِهَا، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي غَيْرِهَا، إذْ الْجَمِيعُ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ وَنِظَامٍ وَاحِدٍ وَإِلّا بَطَلَتْ فَائِدَةُ التّخْصِيصِ وَهَذَا أَنْوَاعٌ.

.لَا تُقَاتَلُ الطّائِفَةُ الْمُمْتَنِعَةُ بِهَا مِنْ مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ:

أَحَدُهَا- وَهُوَ الّذِي سَاقَهُ أَبُو شُرَيْحٍ الْعَدَوِيّ لِأَجْلِهِ- أَنّ الطّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ بِهَا مِنْ مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ لَا تُقَاتَلُ لَا سِيمَا إنْ كَانَ لَهَا تَأْوِيلٌ كَمَا امْتَنَعَ أَهْلُ مَكّةَ مِنْ مُبَايَعَةِ يَزِيدَ وَبَايَعُوا ابْنَ الزّبِيرِ، فَلَمْ يَكُنْ قِتَالُهُمْ وَنَصْبُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهِمَا، وَإِحْلَالُ حَرَمِ اللّهِ جَائِزًا بِالنّصّ وَالْإِجْمَاعِ وَإِنّمَا خَالَفَ فِي ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْفَاسِقُ وَشِيعَتُهُ وَعَارَضَ نَصّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ فَقَالَ إنّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، فَيُقَالُ لَهُ هُوَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا مِنْ عَذَابِ اللّهِ وَلَوْ لَمْ يُعِذْهُ مِنْ سَفْكِ دَمِهِ لَمْ يَكُنْ حَرَمًا بِالنّسْبَةِ إلَى الْآدَمِيّينَ وَكَانَ حَرَمًا بِالنّسْبَةِ إلَى الطّيْرِ وَالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ وَهُوَ لَمْ يَزَلْ يُعِيذُ الْعُصَاةَ مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَقَامَ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنّمَا لَمْ يُعِذْ مَقِيسَ بْنَ صُبَابَةَ، وَابْنَ خَطَلٍ، وَمَنْ سُمّيَ مَعَهُمَا، لِأَنّهُ فِي تِلْكَ السّاعَةِ لَمْ يَكُنْ حَرَمًا، بَلْ حِلّا، فَلَمّا انْقَضَتْ سَاعَةُ الْحَرْبِ عَادَ إلَى مَا وُضِعَ عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَكَانَتْ الْعَرَبُ فِي أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ فِي الْحَرَمِ، فَلَا يَهِيجُهُ وَكَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ خَاصّيّةَ الْحَرَمِ الّتِي صَارَ بِهَا حَرَمًا، ثُمّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَكّدَ ذَلِكَ وَقَوّاهُ وَعَلِمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ مِنْ الْأُمّةِ مَنْ يَتَأَسّى بِهِ فِي إحْلَالِهِ بِالْقِتَالِ وَالْقَتْلِ فَقَطَعَ الْإِلْحَاقَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخّصَ لِقَتَالِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُولُوا: إنّ اللّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكَ وَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَتَى حَدّا أَوْ قِصَاصًا خَارِجَ الْحَرَمِ يُوجِبُ الْقَتْلَ ثُمّ لَجَأَ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إقَامَتُهُ عَلَيْهِ فِيهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَوْ وَجَدْتُ فِيهِ قَاتِلَ الْخَطّابِ مَا مَسِسْتُهُ حَتّى يَخْرُجَ مِنْهُ وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ لَوْ لَقِيتُ فِيهِ قَاتِلَ عُمَرَ مَا نَدَهْتُهُ وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّهُ قَالَ لَوْ لَقِيتُ قَاتِلَ أَبِي فِي الْحَرَمِ مَا هِجْتُهُ حَتّى يَخْرُجَ مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ التّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بَلْ لَا يُحْفَظُ عَنْ تَابِعِيّ وَلَا صَحَابِيّ خِلَافُهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ إلَى أَنّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِي الْحَرَمِ، كَمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِي الْحِلّ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَاحْتُجّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِعُمُومِ النّصُوصِ الدّالّةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي كُلّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ وَبِأَن النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ، وَهُوَ مُتَعَلّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَبِمَا يُرْوَى عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارّا بِدَمٍ وَلَا بِخَرْبَةٍ وَبِأَنّهُ لَوْ كَانَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النّفْسِ لَمْ يُعِذْهُ الْحَرَمُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إقَامَتِهِ عَلَيْهِ وَبِأَنّهُ لَوْ أَتَى فِيهِ بِمَا يُوجِبُ حَدّا أَوْ قِصَاصًا، لَمْ يُعِذْهُ الْحَرَمُ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إقَامَتِهِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَتَاهُ خَارِجَهُ ثُمّ لَجَأَ إلَيْهِ إذْ كَوْنُهُ حَرَمًا بِالنّسْبَةِ إلَى عِصْمَتِهِ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أُبِيحَ قَتْلُهُ لِفَسَادِهِ فَلَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ قَتْلِهِ لَاجِئًا إلَى الْحَرَمِ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ قَدْ أَوْجَبَ مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ فِيهِ كَالْحَيّةِ وَالْحِدَأَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَلِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلّ وَالْحَرَمِ فَنَبّهَ بِقَتْلِهِنّ فِي الْحِلّ وَالْحَرَمِ عَلَى الْعِلّةِ وَهِيَ فِسْقُهُنّ وَلَمْ يَجْعَلْ الْتِجَاءَهُنّ إلَى الْحَرَمِ مَانِعًا مِنْ قَتْلِهِنّ وَكَذَلِك فَاسِقُ بَنِي آدَمَ الّذِي قَدْ اسْتَوْجَبَ الْقَتْلَ. قَالَ الْأَوّلُونَ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلّةِ وَلَا سِيمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آلَ عِمْرَانَ 97]، وَهَذَا إمّا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ لِاسْتِحَالَةِ الْخُلْفِ فِي خَبَرِهِ تَعَالَى، وَإِمّا خَبَرٌ عَنْ شَرْعِهِ وَدِينِهِ الّذِي شَرَعَهُ فِي حَرَمِهِ وَإِمّا إخْبَارٌ عَنْ الْأَمْرِ الْمَعْهُودِ الْمُسْتَمِرّ فِي حَرَمِهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [الْعَنْكَبُوتَ 67]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا إِنْ نَتّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَيْءٍ} [الْقَصَصَ 57] وَمَا عَدَا هَذَا مِنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} مِنْ النّارِ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ كَانَ آمِنًا مِنْ الْمَوْتِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَكَمْ مِمّنْ دَخَلَهُ وَهُوَ فِي قَعْرِ الْجَحِيمِ. وَأَمّا الْعُمُومَاتُ الدّالّةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي كُلّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ فَيُقَالُ أَوّلًا: لَا تَعَرّضَ فِي تِلْكَ الْعُمُومَاتِ لِزَمَانِ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا مَكَانِهِ كَمَا لَا تَعَرّضَ فِيهَا لِشُرُوطِهِ وَعَدَمِ مَوَانِعِهِ فَإِنّ اللّفْظَ لَا يَدُلّ عَلَيْهَا بِوَضْعِهِ وَلَا بِتَضَمّنِهِ فَهُوَ مُطْلَقٌ بِالنّسْبَةِ إلَيْهَا، وَلِهَذَا إذَا كَانَ لِلْحُكْمِ شَرْطٌ أَوْ مَانِعٌ لَمْ يَقُلْ إنّ تَوَقّفَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ تَخْصِيصٌ لِذَلِكَ الْعَامّ فَلَا يَقُولُ مُحَصّلٌ إنّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النّسَاءَ 24ُ] مَخْصُوصٌ بِالْمَنْكُوحَةِ فِي عِدّتِهَا، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهَا، أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَهَكَذَا النّصُوصُ الْعَامّةُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا تَعَرّضَ فِيهَا لِزَمَنِهِ وَلَا مَكَانِهِ وَلَا شَرْطِهِ وَلَا مَانِعِهِ وَلَوْ قُدّرَ تَنَاوُلُ اللّفْظِ لَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ بِالْأَدِلّةِ الدّالّةِ عَلَى الْمَنْعِ لِئَلّا يَبْطُلَ مُوجَبُهَا، وَوَجَبَ حَمْلُ اللّفْظِ الْعَامّ عَلَى مَا عَدَاهَا كَسَائِرِ نَظَائِرِهِ وَإِذَا خَصّصْتُمْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ بِالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَالْمَرِيضِ الّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ وَالْحَالِ الْمُحَرّمَةِ لِلِاسْتِيفَاءِ كَشِدّةِ الْمَرَضِ أَوْ الْبَرْدِ أَوْ الْحَرّ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَخْصِيصِهَا بِهَذِهِ الْأَدِلّةِ؟ وَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا، بَلْ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِهَا، كِلْنَا لَكُمْ بِهَذَا الصّاعِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَأَمّا قَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ، فَقَدْ تَقَدّمَ أَنّهُ كَانَ فِي وَقْتِ الْحِلّ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَطَعَ الْإِلْحَاقَ وَنَصّ عَلَى أَنّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّمَا أُحِلّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ صَرِيحٌ فِي أَنّهُ إنّمَا أُحِلّ لَهُ سَفْكُ دَمٍ حَلَالٍ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فِي تِلْكَ السّاعَةِ خَاصّةً إذْ لَوْ كَانَ حَلَالًا فِي كُلّ وَقْتٍ لَمْ يَخْتَصّ بِتِلْكَ السّاعَةِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّ الدّمَ الْحَلَالَ فِي غَيْرِهَا حَرَامٌ فِيهَا، فِيمَا عَدَا تِلْكَ السّاعَةَ وَأَمّا قَوْلُهُ الْحَرَمُ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا فَهُوَ مِنْ كَلَامِ لْفَاسِقِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ، يَرُدّ بِهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ رَوَى لَهُ أَبُو شُرَيْحٍ الْكَعْبِيّ هَذَا الْحَدِيثَ كَمَا جَاءَ مُبَيّنًا فِي الصّحِيحِ فَكَيْفَ يُقَدّمُ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. وَأَمّا قَوْلُكُمْ لَوْ كَانَ الْحَدّ وَالْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النّفْسِ لَمْ يُعِذْهُ الْحَرَمُ مِنْهُ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَمَنْ مَنَعَ الِاسْتِيفَاءَ نَظَرَ إلَى عُمُومِ الْأَدِلّةِ الْعَاصِمَةِ بِالنّسْبَةِ إلَى النّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَمَنْ فَرّقَ قَالَ سَفْكُ الدّمِ إنّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْقَتْلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِهِ فِي الْحَرَمِ تَحْرِيمُ مَا دُونَهُ لِأَنّ حُرْمَةَ النّفْسِ أَعْظَمُ وَالِانْتِهَاكَ بِالْقَتْلِ أَشَدّ قَالُوا: وَلِأَنّ الْحَدّ بِالْجَلْدِ أَوْ الْقَطْعِ يَجْرِي مَجْرَى التّأْدِيبِ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ كَتَأْدِيبِ السّيّدِ عَبْدَهُ وَظَاهِرُ هَذَا الْمَذْهَبِ أَنّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ النّفْسِ وَمَا دُونَهَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَجَدْتهَا لِحَنْبَلٍ عَنْ عَمّهِ أَنّ الْحُدُودَ كُلّهَا تُقَامُ فِي الْحَرَمِ إلّا الْقَتْلَ قَالَ وَالْعَمَلُ عَلَى أَنّ كُلّ جَانٍ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدّ حَتّى يَخْرُجَ مِنْهُ قَالُوا: وَحِينَئِذٍ فَنُجِيبُكُمْ بِالْجَوَابِ الْمُرَكّبِ وَهُوَ أَنّهُ إنْ كَانَ بَيْنَ النّفْسِ وَمَا دُونَهَا فِي ذَلِكَ فَرْقٌ مُؤَثّرٌ بَطَلَ الْإِلْزَامُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُؤَثّرٌ سَوّيْنَا وَبَطَلَ الِاعْتِرَاضُ فَتَحَقّقَ بُطْلَانُهُ عَلَى التّقْدِيرَيْنِ. قَالُوا: وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ مَنْ انْتَهَكَ فِيهِ الْحُرْمَةَ إذْ أَتَى فِيهِ مَا يُوجِبُ الْحَدّ فَكَذَلِكَ اللّاجِئُ إلَيْهِ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرّقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالصّحَابَةُ بَيْنَهُمَا، فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ، حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ مَنْ سَرَقَ أَوْ قَتَلَ فِي الْحِلّ ثُمّ دَخَلَ الْحَرَمَ، فَإِنّهُ لَا يُجَالَسُ وَلَا يُكَلّمُ وَلَا يُؤْوَى، وَلَكِنّهُ يُنَاشَدُ حَتّى يَخْرُجَ فَيُؤْخَذَ فَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدّ وَإِنْ سَرَقَ أَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ وَذَكَرَ الْأَثْرَمُ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَيْضًا: مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي الْحَرَمِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ مَا أَحْدَثَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ وَقَدْ أَمَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِقَتْلِ مَنْ قَاتَلَ فِي الْحَرَمِ، فَقَالَ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [الْبَقَرَةَ 191].